جامعة "جمال"
by Akram El Magdoub on Sunday, 5 February 2012 at 01:15
"جامعة "جمال
كلية الفنون الجميلة ١٩٧٥، السنة الإعدادية، شغف كبير بتعلم العمارة، تاريخ فن، أبحاث، نحت ورسم، هندسة وصفية، إبدأ بمنزلك، حاول أن تفهمه، أن تنقده، أن تغير فيه.
المدينة القديمة، تجول في شوارعها، إرفع مبانيها حتى أدق التفاصيل، ما هذا الجلال؟ ما هذه المهنة المقدسة؟ إنها الحياة.
محيط كبير ونحن فيه صغار، ملؤنا الشغف والطاقة والأمل والحيرة.
يمضي عام ويبدأ آخر، الصغير لم يعد كما كان، وضع قدمه على بداية الطريق، يحاول جاهداً أن يبذل كل مافي إستطاعته ليتقدم، يحتاج ككل صغير لبعض الثقة كي يخطو الخطوة التالية، فإذا به وقد خطاها ينتبه لواقع لم يكن يراه. واقع قد يجد نفسه فيه متهماً بأن ما حاول إبداعه بجهده ليس من إبداعه!! واقع يجد نفسه فيه مهملاً هو وغيره ممن لا يجيدون المجاملة وما شابه.
إزداد الواقع وضوحاً حتى فهمه الجميع، فمن توافق معه إزدهر ومن تنافر إنزوى، فتوارى التعليم والتعلم خلف التلقين والتملق. لم يكن الحال مختلفاً عند الآخرين، فالأقران في الجامعات الأخرى كانوا في نفس المعاناة، فإن زرتهم في المراسم لا تستطيع أن تفرق بين عمل وآخر وكأنهم في حصة إملاء. تفاقم الواقع المحبط وكاد الحلم يتحول كابوساً.
تضاءل الشغف وإنزوى، وبدا الأمل بعيداً، كيف يمكن أن نتعلم وممن؟ ونحن نتعرض للطرد من الأتيليه ومكاتب الأساتذة عند التجرؤ بإبداء الرأي، إبتلعنا مواهبنا الوليدة مع غصة في الحلق، في بيئة جامعية يجري فيها عميد الكلية خلف طلبته وفي يده خيزرانة.
١٩٧٩، وفي غمرة البحث عن قيمة قد تكون موجودة في تلك البيئة، تقودني الصدفة إلى التعرف على معماري يقبل المتدربين من الطلبة للعمل في مكتبه، "جمال بكري"، لم نكن قد سمعنا بهذا الإسم رغم مرور أربعة أعوام علينا في المجال المعماري، ذهبت إلى مكتبه، فعاودتني مشاعر الأيام الأولى في الجامعة، هنا يمكن أن أبدع، هنا يمكن أن أتعلم، هنا يمكن أن أتنفس.
تكاد تشم رائحة الإبداع في الجو. جولة في المكان بعد مقابلة قصيرة، أنت محاط بالفن، مشروعات مختلفة عما يملى علينا، أفكار جريئة، مكتبة ضخمة متنوعة، أرشيف مليء بأعمال مبهرة، تاريخ كبير لشاب في النصف الثاني من الأربعينيات. هكذا يكون المكتب المعماري، هكذا تمنينا أن تكون الجامعة، بل هنا الجامعة الحقيقية. مكان صغير الحجم كبير القيمة، الكل يشارك، الكل له رأي، الكل من حقه أن يتكلم وأن يعمل. إكتشفت مع الوقت أن هذا المكان غير محدود بجدرانه، في خارجه مجموعات من الشباب المتحمس تتوافد بحثاً عن المعرفة سواء بالرأي أو بالإطلاع، أما في المساء فتعقد الجلسات للإستماع إلى الموسيقى، للمناقشة أو لعرض صور لمشروعات أو لرحلات.
إنتهت الاجازة الصيفية وقد تبدل اليأس، الطاقة مشحونة والخيال حر منطلق، فلنقض هذا العام الدراسي المتبقي ونعود إلى حيث ننتمي.
مر عام وبعده عام، والمكان في نمو مستمر وإزدهار، زاد عدد العاملين، لكنه ظل دائماً "مكتب جمال"بنفس روحه المتقدة وطاقته المبدعة الدائمة. وكنت أصغر الأعضاء، أستشعر المستقبل أمامي، هنا وليس في أي مكان آخر.
إنتبهت لحقيقة أن ما كنت أجده في الجامعة وأعتقده غير صالح، لم يكن موجوداً في الجامعة فقط، فقد كان واقعاً إجتماعياً سائداً، ولا يزال.
١٩٨٢، عام ثم أعوام من كساد ليس معلوم متى سينتهي، أزمة كبيرة واجهها "جمال"، إضطر معها للإستغناء عن معظم من يعملون معه، ورغم الأزمة ظل مكتبه قبلة لكل المنتمين إليه ولغيرهم ممن يتطلعون إلى المعرفة وحرية الإبداع.
وكعقد إنفرطت حباته، ظلت بعض حباته في مجال ماسته، وتبعثرت حبات وضاعت حبات أخرى. وبالرغم من شدة الأزمة ظل "جمال"كعادته منتجاً فوق العادة، ربما كان التحدي هو الحافز وراء تلك الغزارة، وربما كانت الغزارة ملمح من ملامح شخصيته، كالنهر حين تعوقه الصخور يزداد حيوية وتنوعاً.
لم أستطع أن أبتعد، فلنكن فرساناً إلى جوار فارس أكبر، يضرب لنا مثلاً يتكبد وحده عناءه، بينما آخرون يبحثون فقط عن الرزق دون قيمة، أو يتسلقون المناصب والمناكب دون ورع.
لم أستطع أن أبتعد، فعلى منضدة "جمال"تعلمت الكثير، كما تعلم غيري، كان العمل ممتعاً، فأنت تتحمل مسئولية التصميم، حتى لو كنت صغيراً، يصحح أخطاءك أو بالأحرى يناقشها ولا يملي عليك الحلول، يتيح لك أن تشاركه التصميم دونما إستعلاء، فهو يعرف قدر نفسه، كما يؤمن بقدرك وبحقك في أن تكون نفسك، وإن لم تشارك بالتصميم فعليك بالمناقشة والنقد، فإبداء الرأي متاح للجميع حتى أبسط العاملين، ليس بشكل صوري للتحلي بالهيئة المتفتحة إنما بشكل عملي وعن إقتناع بأن الثراء الحقيقي في التعدد.
إن أجمل الأوقات التي قضيتها في حياتي العملية هي تلك التي أتاح لي جمال فيها الوجود إلى جواره أثناء عمله على إسكتشات التصميم الأولية، تلك الأوقات النادرة لكل مصمم، والتي عادةً ما يفضل المصممون أن ينفردوا بأنفسهم فيها.
كنت مملوء بالشغف، وكان مملوء بالعبقرية. قدرة فذة على إستيعاب المعطيات والتجول بحرية فائقة بين كل الأفكار الممكنة، وذكاء خاص في إختيار أنسبها لتصميمه وأكثرها منطقية. يكفي أن تكون إلى جواره في تلك الحالة لتجد نفسك تنتقل من الشغف المبهم إلى آفاق الفكر والخيال، إلى المشاركة والتفاعل، فتجد طاقاتك الشابة سبيلاً لمعرفة ذاتها وإختبار قدراتها.
سنوات من العطاء أدرك فيها "جمال"أنه في مثل تلك الظروف الثقافية والإجتماعية يصعب على مثله أن يغير الواقع العمراني، فالموجة عارمة، وكل تغيير يحدث سرعان ما يتلاشى بالصخب من حوله أو بالتشويه، والمشوهون أكثر وأنشط من غيرهم.
مع حالة الوحشية العمرانية التي نحياها كان "جمال بكري"قادراً على إحداث تغيير أعمق، تخطى القشرة لينفذ إلى الجوهر، إن التغيير الحقيقي هو إنماء أجيال من المبدعين، إن لم تستطع أن تحدث تغييراً في عصرها فهي قادرة على أن تحافظ على الجذوة، كما تستطيع أن تحولها من مجرد جذوة إلى شعلة، بل مشاعل. لقد كان جمال في يوم من الأيام أخ أكبر، ثم أصبح أباً، وهو الآن جد لكثير من المعماريين المبدعين الذين لم يكن لهم أن يولدوا لولا أن تحمل هو ما تحمل بكثير من الصبر والمثابرة، وبرؤية مستقبلية لا تكون إلا لرائد حقيقي. بالرغم من كل تكريم قد يلقاه الآن، ستبقى قيمته الحقيقية متجددة في كل دورة للتجربة المعمارية المصرية، بما يمكن أن تطرحه على الإنسانية من إبداع معماري جديد مواكب لما إعتادت مصر أن تمنحه للبشرية من قيمة حضارية خاصة على مر العصور.
أمسية ومعرض المعماري جمــــال بكــــــري – بين العصر والوجدان –